فصل: تفسير الآيات (103- 110):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (103- 110):

{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)}
ولما تبين بذلك الذي لا مرية فيه أنهم خسروا خسارة لا ربح معها، وخاب ما كانوا يؤملون، أمره أن ينبههم على ذلك فقال: {قل هل ننبئكم} أي نخبركم أنا وكل عبد لله ليست عينه في غطاء عن الذكر، ولا في سمعه عجز عن الوعي، إخباراً عظيماً أيها التاركون من لا خالق ولا رازق لهم سواه، والمقبلون على من ليس بيده شيء من خلق ولا رزق ولا غيره {بالأخسرين} ولما كانت أعمالهم مختلفة، فمنهم من يعبد الملائكة، ومنهم من يعبد النجوم، ومنهم من يعبد بعض الأنبياء، ومنهم من يعبد الأوثان، ومنهم من يكفر بغير ذلك، جمع المميز فقال: {أعمالاً} ثم وصفهم بضد ما يدعونه لأنفسهم من نجاح السعي وإحسان الصنع فقال: {الذين ضل سعيهم} أي حاد عن القصد فبطل {في الحياة الدنيا} بالإعراض عمن لا ينفعهم ولا يضرهم إلا هو، والإقبال على ما لا نفع فيه ولا ضر {وهم} أي والحال أنهم مع ظهور ذلك كالشمس {يحسبون} لضعف عقولهم {أنهم يحسنون صنعاً} أي فعلاً هو في غاية الإحكام وهم في غاية الدربة به؛ وروى البخاري في التفسير عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن الأخسرين اليهود والنصارى، قال: أما اليهود فكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأما النصارى فكفروا بالجنة وقالوا: لا طعام فيها ولا شرب- انتهى. قلت: وكذا قال اليهود لأن الفريقين أنكروا الحشر الجسماني وخصوه بالروحاني.
ولما كانوا ينكرون أنهم على ذلك، لملازمتهم لكثير من محاسن الأعمال، البعيدة عن الضلال، بين لهم السبب في بطلان سعيهم بقوله: {أولئك} أي البعداء البغضاء {الذين كفروا} أي أوقعوا الستر والتغطية لما من حقه أن يظهر ويشهر، مستهينين {بأيات ربهم} من كلامه وأفعاله، وبين سبب هذا الكفر بقوله: {ولقائه} أي فصاروا لا يخافون فلا يردهم شيء عن أهوائهم {فحبطت} أي سقطت وبطلت وفسدت بسبب جحدهم للدلائل {أعمالهم} لعدم بنائها على أساس الإيمان {فلا} أي فتسبب عن سقوطها أنا لا {نقيم لهم} ما لنا من الكبرياء والعظمة المانعين من اعتراض أحد علينا أو شفاعته بغير إذننا لدينا {يوم القيامة وزناً} أي لا نعتبرهم لكونهم جهلوا أمرنا الذي لا شيء أظهر منه، وآمنوا مكرنا ولا شيء أخطر منه.
ولما كان هذا السياق في الدلالة على أن لهم جهنم أوضح من الشمس قال: {ذلك} أي الأمر العظيم الذي بيناه من وعيدهم {جزاؤهم} لكن لما كان حاكماً بضلالهم وغباوتهم، بين الجزاء بقوله: {جهنم} وصرح بالسببية بقوله: {بما كفروا} أي وقعوا التغطية للدلائل {واتخذوا ءاياتي} التي هي مع إنارتها أجد الجد وأبعد شيء عن الهزل {ورسلي} المؤيدين بباهر أفعالي مع ما لهم من الشهامة والفضل {هزواً} فلم يكتفوا بالكفر الذي هو طعن في الإلهية حتى ضموا إليه الهزء الذي هو أعظم احتقار.
ولما بين ما لأحد قسمي أهل الجمع تنفيراً عنهم، بين ما للآخر على تقدير الجواب لسؤال تقتضيه الحال ترغيباً في اتباعهم والاقتداء بهم، فقال: {إن الذين ءامنوا} أي باشروا الإيمان {وعملوا} تصديقاً لإيمانهم {الصالحات} من الخصال {كانت لهم} لبناء أعمالهم على الأساس {جنات} أي بساتين {الفردوس} أي أعلى الجنة، وأصله البستان الذي هو الجنة بالحقيقة لانخفاض ما دونه عنه، وستر من يدخله بكثرة أشجاره {نزلاً} كما كان السعير والأغلال لأولئك نزلاً، يعد لهم حين الدخول {خالدين فيها} بعد دخولهم {لا يبغون} أي يريدون أدنى إرادة {عنها حولاً} أي تحولاً لأنه مزيد عليها، دفعاً لما قد يتوهم من أن الأمر كما في الدنيا من أن كل أحد في أيّ نعيم كان يشتهي ما هو أعلى منه لأن طول الإقامة قد يورث السآمة، بل هم في غاية الرضى بها، لما فيها من أنواع الملاذ التي لا حصر لها ولا انقضاء، لا يشتهي أحد منهم غير ما عنده سواء كان في الفردوس أو فيما دونه، وهو تعريض بالكفرة في أنهم يصطرخون في النار {ربنا أخرجنا منها} [المؤمنون: 107] وذلك عكس ما كان في الدنيا من ركون الكفار إليها، ومحبتهم في طول البقاء فيها، وعزوف المؤمنين عنها، وشوقهم إلى ربهم بمفارقتها.
ولما تم الجواب عن أسئلتهم على أحسن الوجوه مخللاً بما تراه من الحجج البينة والنفائس الملزمة لهم بفصل النزاع، وأتبع ذلك بقص الأمر الذي بإغفاله تجرؤوا على الكفر، وهو أمر البعث إلى أن ختمه بما يقتضي أن معلوماته لا تحد، لأن مقدوراته في تنعيم أهل الجنة لا آخر لها فلا تعد، وكان اليهود قد اعترضوا على قوله في أولها {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} [الإسراء: 85] بأنهم أوتوا التوراة، وكان لكل ما سألوا عنه من الفصول الطويلة الذيول أمور تهول، وكان ربما قال قائل: ما له لا يزيد ذلك شرحاً؟ قال تعالى آمراً بالجواب عن ذلك كله، معلماً لهم بأنهم لا يمكنهم الوقوف على تمام شرح شيء من معلوماته، وآخر استفصال شيء من مقدوراته، قطعاً لهم عن السؤال، وتقريباً إلى أفهامهم بضرب من المثال: {قل} أي يا أشرف الخلق لهم: {لو كان البحر} أي ماؤه على عظمته عندكم {مداداً} وهو اسم لما يمد به الدواة من الحبر {لكلمات} أي لكتب كلمات {ربي} أي المحسن إليّ في وصف ذكر وغيره مما تعنتموه في السؤال عما سألتم عنه أو غير ذلك {لنفد} أي فني مع الضعف فناء لا تدارك له {البحر} لأنه جسم متناه.
ولما كانت المخلوقات- لكونها ممكنة- ليس لها من ذاتها إلا العدم، وكانت الكلمات من صفات الله، وصفات الله واجبة الوجود، فكان نفادها محالاً، فكان نفاد الممكن من البحر وما يمده بالنسبة إليها مستغرقاً للأزمنة كلها، جرد الظرف من حرف الجر فقال: {قبل أن تنفد} أي تفنى وتفرغ {كلمات ربي} لأنها لا تتناهى لأن معلوماته ومقدوراته لا تتناهى، وكل منها له شرح طويل، وخطب جليل؛ ولما لم يكن أحد غيره يقدر على إمداد البحر قال: {ولو جئنا} أي بما لنا من العظمة التي لا تكون لغيرنا {بمثله مدداً} أي له يكتب منه لنفد أيضاً، وهذا كله كناية عن عدم النفاد، لأنه تعليق على محال عادة كقولهم: لا تزال على كذا ما بل بحر صوفة وما دجى الليل، ونحو هذا، ولعله عبر بجمع السلامة إشارة إلى أن قليلها بهذه الكثرة فكيف بما هو أكثر منه، وذلك أمر لا يدخل تحت وصف، وعبر بالقبل دون أن يقال ولم تنفد ونحوه، لأن ذلك كاف في قطعهم عن الاستقصاء في السؤال ولأن التعبير بمثل ذلك ربما فتح باباً من التعنت وهو أن يجعلوا الواو للحال فيجعلوا النفاد مقيداً بذلك، وأما سورة لقمان فاقتضى سياقها في تأسيس ما فيها على {الغني الحميد} [لقمان: 26] ومقصودها أن يكون التعبير فيها بغير ما ههنا، فما في كل سورة أبلغ بالنسبة إلى سياقه، مع أنه ليس في إفصاح واحدة منهما ما يدل على نفاد الكلمات ولا عدمه، وفي إفهام كل منهما بتدبر القرائن في السياق وغيره ما يقطع بعدم نفاذها، ولا تخالف بين الآيتين وإن كان التعبير في هذه السورة أدخل في التشابه، ويجاب عنه بما قالوا في مثل قول الشاعر:
على لاحب لا يهتدى بمناره

من أن ما في حيز السلب لا يقتضي الوجود، ولعل التعبير بمثل ذلك من الفتن المميزة بين من في قلبه مرض وبين الراسخ الذي يرد المتشابه إلى المحكم، وهو ما دل عليه البرهان القاطع من أن الله تعالى لا نهاية لذاته، ولا لشيء من صفاته، بل هو الأول والآخر الباقي بلا زوال- والله أعلم.
ولما كانوا ربما قالوا: ما لك لا تحدثنا من هذه الكلمات بكل ما نسألك عنه حيثما سألناك؟ وكانوا قد استنكروا كون النبي بشراً، وجوزوا كون الإله حجراً، وغيوا إيمانهم به بأمور سألوه في الإتيان بها كما تقدم بعد أول مسائلهم، وهي الروح آخر سبحان، وكان قد ثبت بإجابتهم عن المسائل على هذا الوجه أنه رسول، أمره سبحانه أن يجيبهم عن ذلك كله بما يرد عليهم غلطهم، ويفضح شبههم، إرشاداً لهم إلى أهم ما يعنيهم من الحرف الذي النزاع كله دائر عليه وهو التوحيد فقال: {قل إنما أنا} أي في الاستمداد بالقدرة على إيجاد المعدوم والإخبار بالمغيب {بشر مثلكم} أي لا أمر لي ولا قدرة إلا على ما يقدرني عليه ربي، ولا استبعاد لرسالتي من الله فإن ذلك سنته فيمن قبلي {يوحى إليّ} أي من الله الذي خصني بالرسالة كما أوحى إلى الرسل قبلي ما لا غنى لأحد عن علمه واعتقاده {أنما إلهكم} وأشار إلى أن إلهيته بالإطلاق لا بالنظر إلى جعل جاعل ولا غير ذلك فقال: {إله واحد} أي لا ينقسم بمجانسة ولا غيرها، قادر على ما يريد، لا منازع له، لم يؤخر جواب ما سألتموني عنه من عجز ولا جهل ولا هوان بي عليه- هذا هو الذي يعني كلَ أحد علمه، وأما ما سألتم عنه من أمر الروح والقصتين تعنتاً فأمر لو جهلتموه ما ضركم جهله، وإن اتبعتموني علمتموه الآن وما دل عليه من أمر الساعة إيماناً بالغيب علم اليقين، وعلمتموه بعد الموت بالمشاهدة عين اليقين، وبالمباشرة حق اليقين، وإن لم تتبعوني لم ينفعكم علمه {فمن} أي فتسبب عن وحدته المستلزمة لقدرته أنه من {كان يرجوا} أي يؤمن بمجازاته له على أعماله في الآخرة برؤيته وغيرها، وإنما قال: {لقاء ربه} تنبيهاً على أنه هو المحسن إلى كل أحد بالتفرد بخلقه ورزقه، لا شريك له في شيء من ذلك على قياس ما نعلمه من أنه لا مالك إلا وهو قاهر لمملوكه على لقائه، مصرف له في أوامره في صباحه ومسائه.
ولما كان الجزاء من جنس العمل، كان الواجب على العبد الإخلاص في عمله، كما كان عمل ربه في تربيته بالإيجاد وما بعده، فقال: {فليعمل} وأكده للإعلام بأنه لابد مع التصديق من الإقرار فقال: {عملاً} أي ولو كان قليلاً {صالحاً} وهو ما يأمره به من أصول الدين وفروعه من التوحيد وغيره من أعمال القلب والبدن والمال ليسلم من عذابه {ولا يشرك} أي وليكن ذلك العمل مبنياً على الأساس وهو أن لا يشرك ولو بالرياء {بعبادة ربه أحداً} فإذا عمل ذلك فاز فحاز علوم الدنيا والآخرة، وقد انطبق آخر السورة على أولها بوصف كلمات الله ثم ما يوحى إليه، وكل منهما أعم من الكتاب بالأقومية للدعاء إلى الحال الأسلم، في الطريق الأقوم، وهو التوحيد عن الشريك الأعم من الولد وغيره، والإحسان في العمل، مع البشارة لمن آمن، والنذارة لمن أعرض عن الآيات والذكر، فبان بذلك أن لله تعالى- بوحدانيته وتمام علمه وشمول قدرته صفات- الكمال، فصح أنه المستحق لجميع الحمد- والله الموفق، والحمد لله على إتمام سورة الكهف من كتاب نظم الدرر من تناسب الآي والسور.

.سورة مريم:

.تفسير الآيات (1- 15):

{كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)}
ولما كانت هذه السورة تالية للسورة الواصفة للكتاب- الذي به نعمة الإبقاء الأول- بالاستقامة البالغة، افتتحها بالأحرف المقطعة، كما افتتح السورة التي تلي أم الكتاب، الداعيةَ إلى الصراط المستقيم، الواصفةَ الكتابَ بالهدى الضامن للاستقامة، والتي تلي واصفته، والتي تلي الأنعام المشيرة إلى نعمة الإيجاد الأول، فقال: {كهيعص} وهي خمسة أحرف على عددها مع تلك السور، وهي جامعة النعم، وواصفة الكتاب، وذات النعمة الأولى، وذات النعمة الثانية، كما افتتحت الأعراف التالية لذات النعمة الأولى بأربعة على عددها مع قبلها من الأم الجامعة والواصفة وذات النعمة الأولى، وكما افتتحت آل عمران التالية للواصفة بثلاثة على عددها مع الأم والواصفة {ذكر} أي هذا الذي أتلوه عليكم ذكر {رحمت ربك} أي المحسن إليك بالتأييد بكشف الغوامض وإظهار الخبء {عبده} منصوب برحمة، لأنها مصدر بني على التاء، لا أنها دالة على الوحدة {زكريا} أي ابن ماثان، جزاء له على توحيده وعمله الصالح الذي حمله عليه الرجاء للقاء ربه، والرحمة منه سبحانه المعونة والإجابة والإيصال إلى المراد ونحو ذلك من ثمرات الرحمة المتصف بها العباد {إذ نادى} ظرف الرحمة {ربه}.
ولما قدم تشريفه بالذكر والرحمة والاختصاص بالإضافة إليه فدل ذلك على كمال القرب، قال: {نداء خفياً} أي كما يفعل المحب القريب مع حبيبه المقبل عليه في قصد خطاب السر الجامع بين شرف المناجاة ولذاذة الانفراد بالخلوة، فأطلع سبحانه عليه لأنه يعلم السر وأخفى، فكأنه قيل: كما ذلك الندا؟ فقيل: {قال رب} بحذف الأداة للدلالة على غاية القرب {إني وهن} أي ضعف جداً {العظم مني} أي هذا الجنس الذي هو أقوى ما في بدني، وهو أصل بنائه، فكيف بغيره! ولو جمع لأوهم أنه وهن مجموع عظامه لا جميعها {واشتعل الرأس} أي شعره مني {شيباً ولم أكن} فيما مضى قط مع صغر السن {بدعائك} أي بدعائي إياك {رب شقياً} فأجرِني في هذه المرة أيضاً على عوائد فضلك، فإن المحسن يربي أول إحسانه بآخره وإن كان ما ادعوا به في غاية البعد في العادة، لكنك فعلت مع أبي إبراهيم عليه السلام مثله، فهو دعاء شكر واستعطاف؛ ثم عطف على {إني وهن} قوله: {وإني خفت الموالي} أي فعل الأقارب أن يسيئوا الخلافة {من وراءي} أي في بعض الزمان الذي بعد موتي {وكانت امرأتي عاقراً} لا تلد أصلاً- بما دل عليه فعل الكون {فهب لي} أي فتسبب- عن شيخوختي وضعفي وتعويدك لي بالإجابة، وخوفي من سوء خلافة أقاربي، ويأسي عن الولد عادة بعقم امرأتي، وبلوغي من الكبر حداً لاحراك بي معه- إني أقول لك يا قادراً على كل شيء: هب لي {من لدنك} أي من الأمور المستبطنة المستغربة التي عندك، لم تجرها على مناهج العادات والأسباب المطردات، لا من جهة سبب أعرفه، فإن أسباب ذلك عندي معدومة.
وقد تقدم في آل عمران لذلك مزيد بيان {ولياً} أي من صلبي بدلالة {ذرية} في السورة الأخرى {يرثني} في جميع ما أنا فيه من العلم والنبوة والعمل {ويرث} زيادة على ذلك {من ءال يعقوب} جدنا مما خصصتهم به من المنح، وفضلتهم به من النعم، من محاسن الأخلاق ومعالي الشيم، وخص اسم يعقوب اقتداء به نفسه إذ قال ليوسف عليهما الصلاة والسلام {ويتم نعمته عليك وعلى ءال يعقوب} [يوسف: 6] ولأن إسرائيل صار علماً على الأسباط كلهم، وكانت قد غلبت عليهم الأحداث؛ وقد استشكل القاضي العضد في الفوائد الغياثية كونَ {يرث} على قراءة الرفع صفة بأنه يلزم عليه عدم إجابة دعائه عليه الصلاة والسلام لأن يحيى عليه السلام قتل في حياته، ولا يكون وارثاً إلا إذا تخلف بعده، وقد قال تعالى: {فاستجبنا له ووهبنا له يحيى} [الأنبياء: 90] قال: فتجعل استئنافية، ولا يلزم حينئذ إلا خلف ظنه عليه السلام- هكذا نقل لي عنه، وأنا أجلّه عن ذلك، لأنه لا يلزم تخلف دعائه ولا يتجرأ على عليّ مقامه بإخلاف ظنه، لأن الإخبار عن قتله قبله إن كان عن النبي صلى الله عليه وسلم وصح السند، كان تسمية العلم الذي أخذه عنه في حياته إرثاً مجازاً مرسلاً باعتبار ما يؤول إليه في الجملة، لاسيما مع جواز أن يكون يحيى عليه السلام علَّمه لمن عاش بعد أبيه عليهما الصلاة والسلام، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمى العلم إرثاً على وجه الاستعارة التبعية بقوله عليه الصلاة والسلام «العلماء ورثة الأنبياء» ولا شك أن من ضرورة تعلم العلم حياة المأخوذ عنه، ولم يرد منع من تسميته إرثاً حال الأخذ، هذا إذا صح أن يحيى عليه السلام مات قبل زكريا عليه السلام، وحينئذ يؤول {من وراءي} بما غاب عنه، أي عجزت عن تتبع أفعال الموالي بنفسي في حال الكبر، وخفت سوء فعلهم إذا خرجوا من عندي وغابوا عني، فهب لي ولداً يكون متصفاً بصفاتي، فكان ما سأله، وإن لم يصح موته قبله بالطريق المذكور لم يصح أصلاً، وينتفي الاعتراض رأساً، فإن التواريخ القديمة إنما هي عن اليهود فهي لا شيء، مع أن البغوي نقل في أول تفسير سورة بني إسرائيل ما يقتضي موت زكريا قبل يحيى عليهما الصلاة والسلام، فإنه قال: آخر من بعث الله فيهم من أنبيائهم زكريا ويحيى وعيسى عليهم الصلاة والسلام، وكانوا من بيت آل داود عليه السلام فمات زكريا عليه السلام، وقيل: قتل، فلما رفع الله عيسى عليه الصلاة والسلام من بين أظهرهم وقتلوا يحيى ابتعث الله عليهم ملكاً من ملوك بابل يقال له خردوش فسار إليهم بأهل بابل حتى دخل عليهم الشام، فلما ظهر عليهم أمر رأساً من رؤوس جنوده يدعى بيوزردان صاحب الفيل فقال: إني كنت قد حلفت بإلهي: لئن أنا ظهرت على أهل بيت المقدس لأقتلنهم حتى تسيل دماؤهم في وسط عسكري إلا أن لا أجد أحداً أقتله، فأمره أن يقتلهم حتى يبلغ ذلك منهم، وأن بيوزردان دخل بيت المقدس فقام في البقعة التي كانوا يقربون فيها قربانهم، فوجد فيها دماً يغلي فقال: يا بني إسرائيل! ما شأن هذا الدم يغلي؟ قالوا: هذا دم قربان لنا قربناه فلم يقبل منا، فقال: ما صدقتموني، قالوا: لو كان تأول زماننا لتقبل منا، ولكن قد انقطع منا الملك والوحي فلذلك لم يقبل منا، فذبح منهم بيوزردان على ذلك الدم سبعمائة وسبعين رجلاً من رؤوسهم فلم يهدأ، فأتى بسبعمائة غلام من غلمانهم فذبحهم على الدم يهدأ، فأمر بسبعة آلاف من شيبهم وأزواجهم فذبحهم على الدم فلم يبرد، فلما رأى بيوزردان أن الدم لا يهدأ قال لهم: يا بني إسرائيل! ويلكم! أصدقوني واصبروا على أمر ربكم، فقد طال ما ملكتم الأرض تفعلون فيها ما شئتم قبل أن لا أترك منكم نافخ نار أنثى ولا ذكر إلا قتلته، فلما رأوا الجد وشدة القتل صدقوا الخبر فقالوا: إن هذا دم نبي كان ينهانا عن أمور كثيرة من سخط الله عز وجل، فلو أطعناه فيها لكان أرشد منا، وكان يخبرنا بأمركم فلم نصدقه فقتلناه فهذا دمه، فقال لهم بيوزردان: ما كان اسمه؟ قالوا: يحيى بن زكريا، قال: الآن صدقتموني، بمثل هذا ينتقم منكم ربكم، فلما رأى بيوزردان أنهم صدقوه خر ساجداً وقال لمن حوله: أغلقوا أبواب المدينة وأخرجوا من كان هاهنا من جيش خردوش، وخلا في بني إسرائيل، ثم قال: يا يحيى بن زكريا! قد علم ربي وربك ما قد أصاب قومك من أجلك وما قتل منهم فاهدأ بإذن الله قبل أن لا أبقي من قومك أحداً، فهدأ الدم بإذن الله تعالى، ورفع بيوزردان عنهم القتل وقال: آمنت بالذي آمن به بنو إسرائيل وأيقنت أنه لا رب غيره، وقال لبني إسرائيل: إن خردوش أمرني أن أقتل منكم حتى تسيل دماؤكم وسط عسكره، وإني لست أستطيع أن أعصيه، قالوا له: افعل ما أمرت به، فأمرهم فحفروا خندقاً وأمر بأموالهم من الخيل والبغال والحمير والإبل والبقر والغنم، فذبحها حتى سال الدم في العسكر، وأمر بالقتلى الذين قتلوا قبل ذلك فطرحوا على ما قتل من مواشيهم، فلم يظن خردوش إلا أن ما في الخندق من بني إسرائيل، فلما بلغ الدم عسكره أرسل بيوزردان أن ارفع عنهم القتل، ثم انصرف إلى بابل وقد أفنى بني إسرائيل أو كاد.
فهذا كما ترى ظاهر في أن يحيى تخلف بعد أبيه عليهما الصلاة والسلام وكذا ما تقدم في آل عمران عن الإنجيل في قصة ولادته.
ولما ختم دعاءه بقوله: {واجعله رب} أي أيها المحسن إلي {رضياً} أي بعين الرضا منك دائماً حتى يلقاك على ذلك، قيل في جواب من كأنه قال: ماذا قال له ربه الذي أحسن الظن به؟: {يا زكريا إنا} أي على ما لنا من العظمة {نبشرك} إجابة لدعائك؛ وقراءة الجماعة غير حمزة بالتشديد أوفق من قراءة حمزة للتأكيد الذي جيء به، لأن المبشر به لغرابته جدير بالإنكار {بغلام اسمه يحيى} ثم وصفه بما عرف به أن مما شرفه به أن ادخر له هذا الاسم فقال: {لم نجعل له} فيما مضى، ولعله أتى بالجار الدال على التبعيض تخصيصاً لزمان بني إسرائيل قومه فقال: {من قبل سمياً} فكأنه قيل: ما قال في جواب هذه البشارة العظمى؟ فقيل: {قال} عالماً بصدقها طالباً لتأكيدها، والتلذيذ بترديدها، وهل ذلك من امرأته أو غيرها؟ وهل إذا كان منها يكونان على حالتهما من الكبر أو غيرها غير طائش ولا عجل {رب} أي المحسن إليّ بإجابة دعائي دائماً {أنّى} أي من أين وكيف وعلى أيّ حال {يكون لي غلام} يولد لي على غاية القوة والنشاط والكمال في الذكورة {وكانت} أي والحال أنه كانت {امرأتي} كانت شابة {عاقراً} غير قابلة للولد عادة وأنا وهي شابان فلم يأتنا ولد لاختلال أحد السبيبن فكيف بها وقد أسنت! {وقد بلغت} أنا {من الكبر عتياً} أي أمراً في اليبس مجاوزاً للحد هو غاية في الكبر ما بعدها غاية، وقد حصل من ذلك من الضعف ويبس الأعضاء وقحلها ما يمنع في العادة من حصول الولد مطلقاً لاختلال السببين معاً فضلاً عن أن يصلح لأن يعبر عنه بغلام؛ قال البغوي في آل عمران: وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: كان ابن عشرين ومائة سنة، وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنة؛ وقال الرازي في اللوامع: إن هذا على الاستخبار أيعطيه الله الولد بتلك الحال أم يقلبه شاباً؟ ولله تعالى في كل صنع تدبيران: أحدهما المعروف الذي يسلكه الناس من توجيه الأسباب إلى المسببات، والآخر يتعلق بالقدرة المحضة، ولا يعرفه إلا أهل الاستبصار- انتهى. {قال كذلك} أي الأمر؛ ثم علله بقوله: {قال ربك} أي الذي عودك بالإحسان، وذكر مقول القول فقال: {هو} أي خلق يحيى منكما على هذه الحالة {عليَّ} أي خاصة {هين} لا فرق عندي بينه وبين غيره {وقد خلقتك} أي قدرتك وصورتك وأوجدتك.
ولما كان القصد تشبيه حاله بالإتيان منه بولد على ضعف السبب بتقديره من النطفة على ضعف سبيتها لكونها تارة تثمر وتارة لا، وهو الأغلب، أتى بالجار إشارة إلى ذلك فقال: {من قبل} أي قبل هذا الزمان {ولم} أي والحال أنك لم: ولما كان عليه السلام شديد التشوف لما يلقى عليه من المعنى في هذه البشرى، أوجز له حتى بحذف النون وليثبت أنه ليس له من ذاته إلا العدم المحض، وينفي أن يكون له من ذاته وجود ولو على أقل درجات الكون لاقتضاء حاله في هذا التعجب لتذكيره في ذلك فقال: {تك شيئاً} أي يعتد به، ثم أبرزتك على ما أنت عليه حين أردت، فتحقق بهذا أنه من امرأته هذه العاقر في حال كونهما شيخين، ثم قيل جواباً لمن كأنه قال: ما قال بعد علمه بذلك؟: {قال رب} أي أيها المحسن إليّ بالتقريب! {اجعل لي} على ذلك {ءاية} أي علامة تدلني على وقوعه {قال} أي الله: {ءايتك} على وقوع ذلك {ألا تلكم الناس} أي لا تقدر على كلامهم.
ولما بدئت السورة بالرحمة، وكان الليل محل تنزلها «ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول» الحديث، قال: {ثلاث ليال} أي بأيامها- كما ذلك عليه التعبير بالأيام في آل عمران حال كونك {سوياً} من غير خرس ولا مرض ولا حبسة عن مطلق الكلام، بل تناجي ربك فيها بتسبيحه وتحميده وتلاوة كتابه وكل ما أردت من مثل ذلك وكذا من عدا الناس من الملائكة وغيرهم من صالح عباد الله، وجعلت الآية الدالة عليه سكوتاً عن غير ذكر الله دلالة على إخلاصه وانقطاعه بكليته إلى الله دون غيره {فخرج} عقب إعلام الله له بهذا {على قومه} أي عالياً على العلية منهم {من المحراب} الذي كان فيه وهو صدر الهيكل وأشرف ما فيه، وهو منطلق اللسان بذكر الله منحبسه عن كلام الناس {فأوحى إليهم} أي أشار بشفتيه من غير نطق: قال الإمام أبو الحسن الرماني في آل عمران: والرمز: الإيماء بالشفتين، وقد يستعمل في الإيماء بالحاجبين والعينين واليدين، والأول أغلب؛ قال: وأصله الحركة. وسبقه إلى ذلك الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري فقال: وأما الرمز فإن الأغلب من معانيه عند العرب الإيماء بالشفتين، وقد يستعمل في الإيماء بالحاجبين والعينين أحياناً، وذلك غير كثير فيهم، وقد يقال للخفي من الكلام الذي مثل الهمس بخفض الصوت الرمز. ثم نقل أن المراد به هنا تحرك الشفتين عن مجاهد- انتهى. وهو ظاهر أيضاً في الوحي لأنه مطلق الإشارة والكناية والكلام الخفي، فيجوز أن يكون وحيه بكل منهما، لا يقدر على غير ذلك في مخاطبته للناس، فإذا توجه إلى مناجاة ربه سبحانه انطلق أحسن انطلاق {أن سبحوا} أي أوجدوا التنزيه والتقديس لله تعالى بالصلاة وغيرها {بكرة وعشياً} فحملت امرأته كما قلنا فولدت ولداً فسماه يحيى كما بشرناه به فكبر حتى ميز فقلنا: {يا يحيى خذ الكتاب} أي التوراة {بقوة}.
ولما كانت النبوة لا يستضلع بأمرها ويقوى على حملها إلا عند استحكام العقل ببلوغ الأشد، وكان التطويق على أمرها قبل ذلك من العظمة بمكان، دل عليه النون في قوله: {وءاتيناه} بما لنا من العظمة {الحكم} أي النبوة والفهم للتوراة {صبياً} لغلبة الروح عليه، وهذه الخارقة لم تقتض الحكمة أن تكون لنبينا صلى الله عليه وسلم لأن قومه لا عهد لهم بالنبوة، فكانوا إذا كذبوا لا يكون لهم من أنفسهم ما يلزمهم من التناقض، فعُوّض أعظم من ذلك بغرائز الصدق التي أوجبت له تسميته بالأمين ليكونوا بذلك مكذبين لأنفسهم في تكذيبهم له. وبمزيد إبقاء معجزته القرآنيه بعده تدعو الناس إلى دينه دعاء لا مرد له {و} آتيناه {حناناً} أي رحمة وهيبة ووقاراً ورقة قلب ورزقاً وبركة {من لدنا} من مستقرب المستغرب من عظمتنا بلا واسطة تعليم ولا تجربة {وزكاة} أي طهارة في نيته تفيض على أفعاله وأقواله {وكان} أي جبلة وطبعاً {تقياً} حوافاً لله تعالى {وبراً} أي واسع الأخلاق محسناً {بوالديه ولم يكن} جبلة وطبعاً {جباراً} عليهما ولا على غيرهما؛ ثم قيده بقوله: {عصياً} إشارة إلى أن يفعل فعل الجبارين من الغلظة والقتل والبطش بمن يستحق ذلك كما قال تعالى لخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم {جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم} [التحريم: 9] فكان مطيعاً لله قائماً بحقوقه وحقوق عباده على ما ينبغي، فهنيئاً له ما أعطاه من هذه الخلال القاضية بالكمال، والتعبير بصيغة المبالغة يفهم أن المنفي الجبل عليها، وما دونها يذهبه الله بغسل القلب أو غيره {وسلام} أي أيّ سلام {عليه} منا {يوم ولد} من كل سوء يلحق بالولادة وما بعدها في شيء من أمر الدين {ويوم يموت} من كرب الموت وما بعده، ولعله نكر السلام لأنه قتل فما سلم بدنه بخلاف ما يأتي في عيسى عليه الصلاة والسلام {ويوم يبعث} من كل ما يخاف بعد ذلك {حياً} حياة هي الحياة للانتفاع بها، إجابة لدعوة أبيه في أن يكون رضياً، وخص هذه الأوقات لأن من سلم فيها سلم في غيرها لأنها أصعب منه؛ أخرج الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كل بني آدم يلقى الله يوم القيامة بذنب وقد يعذبه عليه إن شاء أو يرحمه إلا يحيى بن زكريا عليهما السلام فإنه كان سيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين، وأهوى النبي صلى الله عليه وسلم إلى قذاة من الأرض فأخذها وقال: ذكره مثل هذه القذاة»
قال الهيثمي: وفيه حجاج ابن سليمان الرعيني وثقه ابن حبان وغيره وضعفه أبو زرعة وغيره، وبقية رجاله ثقات، وأخرجه أيضاً عن عبد الله بن عمرو ابن عباس رضي الله عنهم، لكن ليس فيه ذكر الذكر، ولفظ ابن عباس رضي الله عنهما: كنت في حلقة في المسجد نتذاكر فضائل الأنبياء- فذكره حتى قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ينبغي أن يكون أحد خيراً من يحيى بن زكريا، قلنا: يا رسول الله! وكيف ذاك؟ قال: ألم تسمعوا الله كيف نعته في القرآن؟ {يا يحيى خذ الكتاب} إلى قوله: {حياً}، مصدقاً بكلمة من الله وسيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين لم يعمل سيئة ولم يهم بهم» ورواه أيضاً البزار وفيه على بن زيد بن جدعان ضعفه الجمهور- وقد وثق، وبقية رجاله ثقات. وأشار سبحانه بالتنقل في هذه الأطوار إلى موضع الرد على من ادعى لله ولداً من حيث إن ذلك قاضٍ على الولد نفسه وعلى أبيه بالحاجة، وذلك مانع لكل من الولد والوالد من الصلاحية لمرتبة الإلهية المنزهة عن الحاجة، وقد مضى في آل عمران ما تجب مراجعته.